من طرف *البركان الهادئ* الأحد مارس 15, 2009 10:18 pm
المحاضرة الأولى
18/3
شهادة المرأة
الحديث الأول
حدثنا سليمان، أخبرنا إسماعيل، أخبرني عمرو –يعني ابن أبي عمرو- عن أبي سعيد المقبري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ انْصَرَفَ مِنْ الصُّبْحِ يَوْمًا، فَأَتَى النِّسَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ، فَقَالَ: « يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَوَاقِصِ عُقُولٍ قَطُّ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِقُلُوبِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْكُنَّ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَقَرَّبْنَ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُنَّ ». وَكَانَ فِي النِّسَاءِ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَأَتَتْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا سَمِعَتْ مِنْ نَّبِيِّ اللَّهِ ، وَأَخَذَتْ حُلِيًّا لَهَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَأَيْنَ تَذْهَبِينَ بِهَذَا الْحُلِيِّ؟ فَقَالَتْ: أَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ( )، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْعَلَنِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَقَالَ: وَيْلَكِ، هَلُمِّي فَتَصَدَّقِي بِهِ عَلَيَّ وَعَلَى وَلَدِي، فَإِنَّا لَهُ مَوْضِعٌ. فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، حَتَّى أَذْهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ . فَذَهَبَتْ تَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ : هَذِهِ زَيْنَبُ تَسْتَأْذِنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ:« أَيُّ الزَّيَانِبِ هِيَ؟» فَقَالُوا: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. فَقَالَ:« ائْذَنُوا لَهَا ». فَدَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ مِنْكَ مَقَالَةً، فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَحَدَّثْتُهُ، وَأَخَذْتُ حُلِيًّا أَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ(3) رَجَاءَ أَنْ لَا يَجْعَلَنِي اللَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ لِي ابْنُ مَسْعُودٍ: تَصَدَّقِي بِهِ عَلَيَّ وَعَلَى وَلَدِي فَإِنَّا لَهُ مَوْضِعٌ، فَقُلْتُ: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ . فَقَالَ النَّبِيُّ :« تَصَدَّقِي بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى بَنِيهِ، فَإِنَّهُمْ لَهُ مَوْضِعٌ » ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا سَمِعْتُ مِنْكَ حِينَ وَقَفْتَ عَلَيْنَا: « مَا رَأَيْتُ مِنْ نَوَاقِصِ عُقُولٍ قَطُّ وَلَا دِينٍ أَذْهَبَ بِقُلُوبِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْكُنَّ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعُقُولِنَا؟. فَقَالَ: « أَمَّا مَا ذَكَرْتُ مِنْ نُقْصَانِ دِينِكُنَّ فَالْحَيْضَةُ الَّتِي تُصِيبُكُنَّ، تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَمْكُثَ لَا تُصَلِّي وَلَا تَصُومُ، فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِكُنَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُ مِنْ نُقْصَانِ عُقُولِكُنَّ فَشَهَادَتُكُنَّ، إِنَّمَا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ شَهَادَةٍ الرجل ».
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم، والترمذي، وأحمد.
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان( )، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، وقتيبة، وابن حجر، قالوا: حدثنا إسماعيل –وهو ابن جعفر-، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المقبري، عن أبي هريرة ، ولم يسق لفظه، لكن عطفه على حديث ابن عمر رضي الله عنهما( ).
وله وجه آخر أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان( )، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه دون قصة زينب، وقال: صحيح غريب حسن من هذا الوجه.
قلت: لم يبين مسلم إذا كان المراد بالمقبري سعيد بن أبي سعيد، أم أبوه؟ وجاء في بعض نسخ مسند أحمد: عن أبي سعيد المقبري، وفي بعض النسخ سقطت لفظة «أبي»( )، وأخرجه النسائي في الكبرى( )، والطحاوي في شرح معاني الآثار( )، وأبو نعيم في الحلية( )، وابن عبد البر في
التمهيد( )، جميعهم من طريق إسماعيل بن جعفر به، وجميعهم بينوا أن المقبري هو أبو سعيد. لكن قال المزي في تحفة الأشراف( ): قال أبو مسعود: هو أبو سعيد المقبري، وقال ابن الفلكي: رواه إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه،عن سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري.انتهى. وعلق على ذلك ابن حجر في النكت الظراف( )، قال: والرواية التي أشار إليها أخرجها أبو عوانة في صحيحه –المستخرج على مسلم- عن محمد بن يحيى، عن إسماعيل بن أبي أويس المذكور، وكذا أخرجها من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عمرو، وصرح بأنه «عن سعيد المقبري»، فبطل ما قال أبو مسعود، ثم وجدته في الإيمان لابن منده، من طريق أيوب بن مسافري، عن أبي بكر بن أبي أويس كذلك.انتهى. وذهب الدار قطني والنووي وغيرهما إلى أن المراد سعيد بن أبي سعيد وسماع عمرو من سعيد وأبيه ثابت( )، والله أعلم.
شرح الحديث( ):
أولاً:
في قوله :« نَاقِصَاتِ عَقْلٍ » :
هذه العبارة من العبارات التي حُمّلت من المعاني ما لم يذهب إليه مراد الشارع الحكيم، واستغلها فئات من الذين أرادوا تشويه الإسلام وإثارة الشبهات حوله من خلال التطرق إلى القضية القديمة المتجددة على الدوام: قضية المرأة، لقد ادعوا أن في قوله :« نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ » ذم للمرأة وتشجيع للرجل على إضاعة حقوقها وظلمها، وانحياز للرجل وعدم احترام للمرأة، إلى غير ذلك( )، فيما ذهب كثير من الناس إلى أن في العبارة دليلاً على أن المرأة عاطفية لا تجيد الحكم على الأمور بعقلانية.
و الحق أن مراد النبي بقوله:« نَاقِصَاتِ عَقْلٍ » وضحه في الموضع نفسه بما لا يدع مجالاً للشك، ففسره بأن شهادتها على النصف من شهادة الرجل هو نقص العقل المقصود هنا، وهو ما فسره النووي رحمه الله بأبلغ عبارة وأخصرها، فقال:«أي إنهن قليلات الضبط».
وليس في قلة ضبط المرأة غير حكاية واقع لا يسيء إليها، وليس فيه ما ذهب إليه البعض من أن نقص عقلها يعني سهولة انخداعها، وتأخرها في الفهم والإدراك، مما يوجب عدم الاعتماد عليها في شؤونها وشؤون غيرها، وعدم أخذ رأيها ومشاورتها في الأمور، وكلها أمور فسر بعضهم بها قوله :« نَاقِصَاتِ عَقْلٍ».
والعقل قسمة بعض العلماء( ) إلى أربع مراتب:
1- العقل الهيولاني( ): وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهو قوة محضة خالية عن الفعل كما في الأطفال، وإنما نسب إلى الهيولى لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولى الأولى الخالية في حد ذاتها عن الصور كلها.
2- العقل بالملكة: العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.
3- العقل بالعقل: أن تصير النظريات مخزونة ضد القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت في غير تجشم كسب جديد.
4- العقل المستفاد: أن يحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه.
وممن قسم العقل إلى هذه المراتب ابن نجيم الحنفي، وهو يرى أن نقصان في عقول النساء فيما هو مناط التكليف( )، لكن المراد بالنقصان العقل بالعقل، ومعنى ما ذهب إليه أن النساء مكلفات بخطاب الشارع شأنهن في ذلك شأن الرجال فلا مجال لنقص عقولهن في هذه المرتبة وهي مرتبة العقل بالملكة، لكن النقص في مرتبتي العقل بالعقل والعقل المستفاد فالمرأة أقل قدرة في نظره من الرجل في استحضار النظريات وإدراكها( ).
ولا يسلم له ما ذهب إليه فإن قلة الضبط مردها إلى ضعف الذاكرة فذاكرة المرأة أضعف إجمالاً من ذاكرة الرجل، لكنها ليست أقل منه في الفهم والإدراك ولذلك كلفت شأنها شأن الرجل، وتحاسب مثله وتطالب بأداء الحقوق ونحو ذلك، وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله، فقال: قوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ ( ) فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة وهو النسيان وعدم الضبط، وإلى هذا المعنى أشار النبي ، حيث قال: «أََمَّا نُقْصَانُ ْعَقْلِهن فَشَهَادَةُ ..الحديث» فبين أن شطر شهادتهن إنما هو لضعف العقل لا لضعف الدين، فعلم بذلك أن عدل النساء بمنزلة عدل الرجال، وإنما عقلها ينقص عنه فما كان من الشهادات لايخاف فيه الضلال في العادة لم تكن على نصف رجل، وما تقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هي أشياء تراها بعينها أو تلمسها بيدها أو تسمعها بأذنها من غير توقف على عقل كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة ولا تحتاج معرفته إلى إعمال عقل كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره فإن هذه معان معقولة ويطول العهد بها في الجملة.انتهى.
وقال ابن القيم: فهو سبحانه أرشدهم –يعني آية الدين- إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها، فإن شهادة الرجل الواحد أقوى من شهادة المرأتين لأن النساء يتعذر غالباً حضورهن مجالس الحكام وحفظهن وضبطهن دون حفظ الرجال وضبطهم .انتهى.
ويؤخذ من قولهما أن ضبط المرأة أقل من ضبط الرجل في أمور محدودة لا في جميع الأمور، فالرضاع والولادة وما أشبههما من الأمور التي يكثر حصولها في محيط النساء فضبطهن فيه متفق عليه حتى إنهم اتفقوا جميعاً على قبول شهادتهن فيه منفردات، بل وقبل أكثرهم شهادة امرأة واحدة فقط –كما سيأتي-، أما أمور المال والديون ونحوها مما يقل حصولها في محيط كثير من النساء فشهادتهن فيها على النصف من شهادة الرجل الذي هو معتاد على هذه الأمور.
أما أن تقول: إن فهم وإدراك وقدرات المرأة العقلية دون قدرات الرجل بدلالة قوله : «نَاقِصَاتِ عَقْلٍ » فليس ذلك بصحيح، بل هو مخالف لدلالة أحكام الشريعة التي ساوت في كثير منها بين الرجل والمرأة، وليس أدل على ذلك من اتفاقهم على أن للمرأة أن تكون محدثة وفقيهة ومجتهدة واستدراكات عائشة على الصحابة جميعاً معروفة( )، وقصة المرأة التي استدركت على عمر حين أراد تحديد المهر، واستدراك أم بشر الحافي على القاضي حين أراد أن يفرق بينها وبين المرأة التي معها في الشهادة كل ذلك مشهور ومعروف( ).
قلت: ذهب بعضهم إلى أن العقل المرد به هنا الدية، وهو قول ضعيف لا يصح.
عدل سابقا من قبل *البركان الهادئ* في الأحد مارس 15, 2009 10:24 pm عدل 3 مرات